الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية **
أي تفسير كل ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إثبات الرؤية فهو حق على حقيقته، مثل ما جاء في القرآن سواء، يجب الإيمان به؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله أي ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المبتدعة والمحرفة. كما يفعله الجهمية والمعتزلة ومن تتلمذ عليهم وأخذ برأيهم من التأويل الباطل. بل الواجب علينا أن نتبع الكتاب والسنة، ولا نتدخل بعقولنا وأفكارنا ونحكمها على ما جاء في الكتاب والسنة، الواجب أن الكتاب والسنة يحكمان على العقول والأفكار(1) ومعنى (سلَّم) أي : قَبِلَ ما جاء عن الله ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وآمن به على ما جاء، من غير أن يتدخل بتحريفه وتأويله، هذا معنى التسليم. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (آمنت بالله وبما جاء في كتاب الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي : لا على الهوى والتحريف وأقوال الناس. . من سَلَّم وانقاد وردّ ما اشتبه عليه، ولم يعرف معناه أول لم يعرف كيفيته، رده إلى عالمه، وهو الله، سبحانه وتعالى، فالذي يشكل عليه شيء يرجع إلى أهل العلم وفوق كل ذي علم عليم، فإن لم يكن عند العلماء علم بهذا فإنه يجب تفويضه إلى الله جل وعلا. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل أصحابه عن بعض الأشياء التي لا يعرفونها قالوا: الله ورسوله أعلم. فلا يدخلون في المتاهات ويتخرصون. فإن وجدت عالمًا موثوقًا يبين لك فالحمد لله، وإلا فابق على تسليمك واعتقادك أنه حق وأن له معنى، ولكن لم يتبين لك. لا يثبت الإسلام الصحيح إلا بالتسليم لله عز وجل، قال سبحانه: والاستسلام هو: الانقياد والطاعة لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . من لم يؤمن بما حجب عنه علمه، مثل علم الكيفية، فالواجب علينا الإيمان بها وردها، أي : رد علمها إلى الله عز وجل وقال عز وجل: من لم يُسلِّم لله ولا إلى الرسول، فإنه يحجب عن معرفة الله ومعرفة الحق، فيكون في متاهات وضلالات(3) وهذه حال المنافقين الذين يتذبذبون، تارة مع المسلمين وتارة مع المنافقين، وتارة يصدقون وتارة يكذبون هذه حالة أهل التردد والنفاق، دائمًا شاكين ، دائمًا مترددين ومتذبذبين؛ لأنه ما ثبتت قدم أحدهم في الإسلام ولم يسلم لله ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما ذكر الله عن المنافقين أنهم دار السلام هي الجنة، فلا يصح الإيمان بالرؤية أي رؤية الله فيها لمن يتوهم ويتأول فيها وينفي حقيقتها، ولم يسلم لله ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتدخل فيها بفكره وفهمه. كل هذا تأكيد لما سبق في أنه يجب التسليم لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الرؤية، لا نتدخل فيها كما تدخل أهل البدع، بل نثبتها كما جاءت ونؤمن بها، ونثبت أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة قبل دخول الجنة، وبعد دخولهم الجنة يرونه أيضًا، إكرامًا لهم حيث آمنوا به في الدنيا ولم يروه. وهذا الأمر عليه دين المسلمين، وهو الإيمان والتسليم لما جاء عن الله ورسوله، وعدم التدخل في ذلك بالأفهام والأوهام والتأويلات الباطلة، والتحريفات الضالة، هذا دين الإسلام، بخلاف غير المسلمين، فإنهم يتدخلون فيما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحرفون الكلم عن مواضعه. لابد كما سبق من الوسط بين التعطيل وبين التشبيه، فلا يبالغ ويغلو في تنـزيه الله حتى يعطل الله من صفاته كما فعل المعطلة، ولا يُثبت إثباتًا فيه غلو حتى يشبه الله بخلقه، بل يعتدل فيُثبت لله ما ثبته لنفسه له رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تكييف، هذا هو الصراط المستقيم المعتدل. فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له، ولا مثيل ولا عديل له، سبحانه وتعالى. صفات الوحدانية بأن الله واحد لا شريك له، لا في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، فهو واحد في كل هذه الحقائق. منعوت، أي: موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، بل أسماؤه وصفاته خاصة به ولائقة به، وصفات المخلوقين وأسماء المخلوقين خاصة بهم ولائقة بهم، وبهذا يتضح لك الحق والصواب، وتبرأ من طريقة المعطلة ومن طريقة المشبهة. هذا فيه إجمال: إن كان يريد الحدود المخلوقة فالله منـزه عن الحدود والحلول في المخلوقات، وإن كان يريد بالحدود: الحدود غير المخلوقة، وهي جهة العلو، فهذا ثابت لله جل وعلا وتعالى، فالله لا ينـزه عن العلو، لأنه حق، فليس هذا من باب الحدود ولا من باب الجهات المخلوقة. والغايات فيها إجمال أيضًا، فهي تحتمل حقًا وتحتمل باطلًا، فإن كان المراد بالغاية: الحكمة من خلق المخلوقات، وأنه خلقها لحكمة، فهذا حق، ولكن يقال: حكمة، لا يقال: غاية، قال تعالى: وإن أريد بالغاية: الحاجة إلى المخلوقات، فنعم، هذا نفي صحيح، فالله عز وجل لم يخلق الخلق لحاجته وفقره إليهم، فإنه غني عن العالمين. (والأركان، والأعضاء، والأدوات) فيها إجمال أيضًا، إن أُريد بالأركان والأعضاء والأدوات: الصفات الذاتية مثل الوجه، واليدين، فهذا حق، ونفيه باطل. وإن أُريد نفي الأعضاء التي تشابه أعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين فالله سبحانه منـزه عن ذلك، فالأبعاض والأعضاء فالحاصل أن هذا فيه تفصيل: أولًا: إذا أُريد بذلك نفي الصفات الذاتية عن الله تعالى من الوجه واليدين، وما ثبت له سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية، فهذا باطل. ثانيًا: أما إن أُريد بذلك أن الله منـزه عن مشابهة أبعاض المخلوقين وأعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين، فنعم، الله منـزه عن ذلك؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته. الحاصل: أن هذه الألفاظ التي ساقها المصنف فيها إجمال ولكن يحمل كلامه على الحق؛ لأنه –رحمه الله تعالى- من أهل السنة والجماعة، ولأنه من أئمة المحدثين، فلا يمكن أن يقصد المعاني السيئة، ولكنه يقصد المعاني الصحيحة،وليته فصّل ذلك وبيّنه ولم يجمل هذا الإجمال . نقول: هذا فيه إجمال، إن أُريد الجهات المخلوقة، فالله منـزّه عن ذلك، لا يحويه شيء من مخلوقاته، وإن أُريد جهة العلو وأنه فوق المخلوقات كلها، فهذا حق ونفيه باطل، ولعل قصد المؤلف بالجهات الست، أي: الجهات المخلوقة؛ لا جهة العلو لأنه مثبت للعلو –رحمه الله-، ومثبت للاستواء. معنى الإسراء هو السير ليلًا، فقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة. أسرى به جبريل بأمر من الله تعالى قال تعالى وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المسافة كانت تقطع في شهر أو أكثر، وقطعها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة. وأما المعراج: فهو آله الصعود وعرج، يعني صعد وكلاهما ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم (4) فالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما المعراج فمن الأرض إلى السماء، وكل هذا حصل في ليلة واحدة، أُسري به إلى بيت المقدس وصلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء وجاوز السبع الطباق، وأراه الله من آياته ما أراه من آياته الكبرى، ثم نزل إلى الأرض، ثم جاء به جبريل إلى المكان الذي أُسري به منه في ليلة واحدة. فالإسراء مذكور في سورة الإسراء، والمعراج مذكور في سورة النجم فالإسراء والمعراج حق، ومن أنكرهما واستبعدهما فهو كافر بالله عز وجل، ومن تأولهما فهو ضال، ولم ينكره إلا المشركون، فمن يقول: أُسري بروحه دون جسده، أو كان ذلك منامًا لا يقظة، فهذا ضلال؛ لأن الله قال: (أسرى بعبده) والعبد اسم للروح والبدن، لا يقال للروح إنها عبد، وكان الإسراء في حال اليقظة ولم يكن منامًا؛ لأن المنام ليس فيه عبرة، كل الناس يرون الرؤيا ويرون عجائب، وليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. عرج بشخصه، رد على الذين يقولون: عرج بروحه، بل عرج بشخصه –والشخص اسم للروح والجسم، والله يقول: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} . هذا المعراج إلى السماء أوحى الله إليه بذلك المكان ما أوحى ، وكلمه الله سبحانه ولم ير الله؛ لأن الله لا يُرى في الدنيا . هذا المعراج المذكور في سورة النجم . هذا من حقوقه عليه الصلاة والسلام: أن يصلى عليه ويسلم عند ذكره ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأخبر المشركين بهذه الحادثة اشتد كفرهم وتكذيبهم بهذه المناسبة؛ من أجل أن يشوهوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقولون: نحن نمشي إلى فلسطين مدة شهر فأكثر، وهو يقول: في ليلة واحدة ! فارتد بعض ضعاف الإيمان بسبب هذه الحادثة، وأما أهل الإيمان الصحيح فثبتوا وصدقوا، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه: أما ترى صاحبك كيف يقول؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة واحدة، قال: فإن كان قاله فهو كما قال. لأنه لا ينطق عن الهوى. وقال: أنا أصدقه بخبر السماء –أي الوحي- أفلا أصدقه في هذا!؟ هذا هو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع. من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة ما صح فيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يوم القيامة، وما يحدث في يوم القيامة من أمور، فمن ذلك : الحوض: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن له حوضًا(5) فيحصل الظمأ الشديد، فجعل الله هذا الحوض غياثًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يغيثهم به، ومعلوم أن الغيث الذي ينـزله الله من السماء تحيا به الأرض وتحيا به النفوس، فكذلك الحوض فإنه غياثٌ يغيث الله به العباد عند شدة حاجتهم إلى الماء . والحوض هو مجمع الماء، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وأن من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل(6) وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يرده أقوامٌ ثم يذادون ويمنعون من الشرب منه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : الشفاعة أيضًا من مسائل العقيدة المهمة (9) فالشفاعة يوم القيامة الناس فيها على ثلاثة أقسام: قوم غلوا في إثباتها حتى طلبوها من الأموات ومن القبور ومن الأصنام والأشجار والأحجار وطائفة غلت في نفي الشفاعة كالمعتزلة والخوارج، فإنهم نفوا الشفاعة في أهل الكبائر، وخالفوا ما تواترت به الأدلة من الكتاب والسنة في إثبات الشفاعة. وأهل السنة والجماعة توسطوا فأثبتوا الشفاعة على الوجه الذي ذكره الله ورسوله، وآمنوا بها من غير إفراط ولا تفريط. والشفاعة في اللغة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، فالوتر هو الفرد الواحد. والشفع هو أكثر من واحد، اثنين أو أربعة أو ستة، وهو ما يسمى بالعدد الزوجي. وشرعًا: الوساطة في قضاء الحاجات، وساطة بين من عنده الحاجة وصاحب الحاجة، وهي على قسمين: شفاعة عند الله، وشفاعة عند الخلق. فالشفاعة عند الخلق على قسمين: شفاعة حسنة، وهي الأمور الحسنة النافعة المباحة، تتوسط عند من عنده حاجات الناس من أجل أن يقضيها لهم، قال سبحانه: والقسم الثاني: شفاعة سيئة، وهي التوسط في أمور محرمة، كالشفاعة في إسقاط الحدود إذا وجبت، وهذا يدخل فيمن لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: أما الشفاعة عند الله فليست كالشفاعة عند المخلوق، فالشفاعة عند الخالق: أن يكرم الله جل وعلا بعض عباده في أن يدعو لأحد المسلمين المستحقين للعذاب بسبب كبيرة ارتكبها، فيشفع عنده الشافع في أن يعفو عنه ولا يعذبه؛ لأنه مؤمن موحد، فيشفع الشافع عند الله جل وعلا بأن يعفو عنه، أو فيمن دخل النار في معصية فيشفع الشافع عند الله في أن يخرج ويرفع عنه العذاب، وهي ما تسمى بالشفاعة في أهل الكبائر. لكن الشفاعة عند الله يشترط لها شرطان: الشرط الأول: أن تكون بإذن الله، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذن، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، أما من قبل أن يأذن فلا أحد يتقدم إلى الله عز وجل: الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد وأهل الإيمان، ممن يرضى الله عنهم قولهم وعملهم، أما الكافر فإنه لا تنفعه الشفاعة فالكافر لا تنفعه الشفاعة؛ لو شفع فيه أهل السماوات وأهل الأرض ما قبل الله فيه شفاعتهم؛ لأنه مشرك كافر بالله عز وجل، لا يرضى الله قوله ولا عمله، إلا ما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فهي شفاعة خاصة، وأيضًا ليست شفاعة من أجل خروجه من النار، إنما هي شفاعة من أجل تخفيف العذاب عن هذا الرجل؛ لما حصل منه من مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له –عليه الصلاة والسلام- والمدافعة عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في تخفيف العذاب عنه فقط. هذه هي الشفاعة الثابتة بشروطها ، وهي أنواع: منها أنواع خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنواع مشتركة بينه وبين غيره من الأنبياء، والملائكة والصالحين والأفراط الذين ماتوا قبل البلوغ، كل هؤلاء يشفعون عند الله سبحانه وتعالى. وأما الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي أنواع: أولها: شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف إذا طال الموقف يوم القيامة، واشتد الكرب، واشتد الزحام، ودنت الشمس من الرؤوس، وحصل الكرب العظيم، أهل المحشر يريدون من يشفع لهم لفصل القضاء بينهم وصرفهم من هذا الموقف: إما إلى جنة وإما إلى نار؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيعتذر لهيبة المقام وجلالته، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام أول الرسل فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر أيضًا، ثم يذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: هذه شفاعته عليه الصلاة والسلام في الفصل بين الخلائق، وهي مقام عظيم شرّف الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي قال الله سبحانه فيه: الشفاعة الثانية: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(13) الشفاعة الثالثة: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم : شفاعته لأهل الجنة بأن يرفع الله منازلهم ودرجاتهم، فيشفع في أناس في أن يرفع الله درجاتهم في الجنة، فيرفعهم الله بشفاعته عليه الصلاة والسلام. الشفاعة الرابعة: -وهي مشتركة- الشفاعة في أهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، وفي من دخلها أن يخرج منها، وهذه هي محط الخلاف بين الفرق؛ فالجهمية والخوارج وأضرابهم أنكروها وقالوا: من دخل النار لا يخرج منها، وأهل السنة والجماعة أثبتوها كما جاءت واعتقدوها، ويجب على المسلم أن يعتقدها ويؤمن بها، وأن يسأل الله أن يُشفع فيه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بحاجة إليها. الشفاعة الخامسة: وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في عمه أبي طالب، أبو طالب مات على الشرك وعلى دين عبد المطلب المشرك، قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، فصار من أهل النار الخالدين فيها. ولكن الله عز وجل يشفع رسوله عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه، فيكون في ضحضاح من نار، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، مع أنه أهون أهل النار عذابًا(15) والشفاعة في أهل الكبائر مشتركة، فالملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والأولياء والصالحون يشفعون(16) الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا حق، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بالوحدانية، وأخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا(17) وأما قوله تعالى: فالله سبحانه فطرهم على التوحيد وعلى الإسلام(18) ومع هذا نصب الأدلة على ربوبيته فيما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم العجيب، وما فيهم من الآيات العجيبة التي تدل على الخالق سبحانه وتعالى، وكذلك ما نصبه أمامهم من السماوات والأرض والمخلوقات التي تدل على الخالق، إن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، لم توجد صدفة أو توجد بدون خالق وفي كل شيء له آيـــة *** تدل على أنه واحـــد كل ما أمامك يدل على وحدانية الله، ويشهد لله بالانفراد في خلق هذه المخلوقات هذا الكلام وما بعده من كلام الشيخ –رحمه الله- كله في موضوع القضاء والقدر. والإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( فليس هناك شيء بدون تقدير، أو أن هناك أشياء تقع صدفة، أو أن الأمر أُنف؛ إن كل شيء يحدث فإنه مقدر ومكتوب. والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع درجات، نلخصها فيما يلي: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء، وأن الله علم الأشياء أزلًا، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، لا يخفى على علمه شيء سبحانه وتعالى. وهي الكتابة العامة الشاملة لكل شيء، وفي الحديث: المرتبة الثانية: أن الله جلا وعلا كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، بعد أن علمها سبحانه . المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، لا يكون في هذا الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته مما هو في اللوح المحفوظ، وفي علمه سبحانه وتعالى، لا يحدث شيء بدون إرادته، ولا يكون في ملكه ما لا يريد سبحانه، المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، فما شاءه وأراده فإنه يوجده ويخلقه وأدلة العلم أدلة كثيرة جدًا. ومن جملة الذي وصف الله به نفسه، العلم، فإنه سبحانه وتعالى يعلم عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وذلك في علمه الأزلي. وأن ما قدره الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص، ومن ذلك: أنه يعلم أهل الجنة وأهل النار، ويعلم ما هم عاملون، نؤمن بذلك ونتجه إلى العمل، ولا نتناقش في القضاء والقدر: كيف؟ ولماذا؟ وكيف يُحاسبُ على شيء قد قدره؟ إلى آخر الهذيانات وإضاعة الأوقات، والاعتراض على الله عز وجل. الواجب عليك فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فليس شأن العبد التفتيش في سر الله عز وجل ومخاصمة الرب جل وعلا، إنما شأنه العمل، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ما منهم من أحد إلا مكتوب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، قالوا : يا رسول الله، ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ قال: أما الاحتجاج بالقضاء والقدر فليس بعذر، فإن الله عز وجل قد بين لنا الخير والشر فليس هناك عذر، فالناس يقعون في مشاكل بسبب دخولهم في أشياء ليست من اختصاصهم، فيقول: إن كان الله قد كتب لي أن أدخل الجنة دخلتها، وإن كان قد كتب لي أن أدخل النار دخلتها، ولا يعمل شيئًا. فيقال له: أنت لا تقول بهذا في نفسك، هل تقعد في البيت وتترك طلب الرزق وتقول: إن كان الله قد كتب لي رزقًا فسييسره لي؟ أو تخرج وتسعى وتطلب الرزق؟ البهائم والطيور لا تقعد في أوكارها، بل تخرج وتطلب الرزق، وجاء في الحديث : (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)(22) وأيضًا : لو أن أحدًا سرق منك شيئًا، هل تقول: هذا قضاء وقدر، أم تشتكيه؟ بل تشتكيه وتطلب وتخاصم، ولا تحتج بالقضاء والقدر! أي : علم أفعالهم في الأزل قال تعالى: (والأعمال بالخواتيم) : الإنسان لا يغتر بعمله وإن كان أصلح الصالحين، بل يخاف من سوء العاقبة، ولا يحكم على أحد بأنه من أهل النار بموجب أفعاله؛ لأنه لا يدري بماذا يختم له، ويوضح ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: فالإنسان يخاف من سوء الخاتمة، ولا يحكم على أحد بسوء الخاتمة؛ لأنه لا يدري بما يختم له. فالتوبة تجبُّ ما قبلها: فالأعمال بالخواتيم، ولكن من لطف الله عز وجل بعباده أن من عاش على الخير فإنه يختم له بالخير، ومن عاش على الشر فإنه يختم له بالشر، فالإنسان يعمل الأسباب ويحسن الظن بالله عز وجل. وبعض الناس يقول: أتوب قبل الموت، فنقول له: وهل تدري متى تموت؟ يمكن أن تموت في لحظة لا يمكن معها التوبة، ولا تدري هل التوبة مقبولة أم لا؛ لأن التوبة لها شروط. لا يشقى بقضاء الله عز وجل، إنما يشقى بعمله الذي قدره الله له. من قدر الله أنه يشقى أو يسعد فسييسره له. أي : لن تصل إلى سره، مهما حاولت التفتيش في القضاء والقدر. فلا تكلف نفسك، ولكن آمن بالقضاء والقدر، واعمل الأعمال الصالحة واجتنب الأعمال السيئة، وأما أن تبحث عن أسرار القدر فهذا ليس من اختصاصك، ولا هو من شأنك، وما كلفت به. هذا من شأن الله عز وجل، ومن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه غيره، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، وأفضل الرسل يقول:
هذا كلام عظيم، أي التعمق في القضاء والقدر ومسائله، وإشغال الوقت والنفس والقلب، مما يورث الشكوك ويخذل عن العمل، فهذا من اللعب والخذلان. إذا خذل الله العبد شغله في هذه الأمور، وإذا أكرم الله العبد شغله في طاعته، واغتنام وقته. فنحن لنا حدود لا نتعداها، فالله ما كلفنا بالبحث في القضاء والقدر، ولكن كلفنا باعتقاد ذلك بالعمل الصالح وترك العمل السيئ . أي احذر من هذه الأمور، والنظر في هذه الأمور، والتفكير فيها، والوسوسة وهي: التردد والشك، اترك هذه الأمور، وسد هذا الباب أصلًا. هذا تأكيد لما سبق [القدر سر الله تعالى] ومعنى طوى: أخفى، فطوى الله هذه المعلومات عن خلقه؛ لأنه ليس لهم فيها مصلحة. عن مرام القدر أن يبحثوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى الصحابة يتساءلون في هذا فقال: أنت لا تسأل الله ولا تناقشه عن أفعاله وعن قضائه وقدره، تأدب مع الله؛ لأنك عبد، فلا تتدخل في شؤونه جل وعلا، فالله لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، والحكمة قد تظهر وقد تخفى علينا، فنؤمن بأن الله لا يفعل شيئًا عبثًا؛ إنما يفعله لحكمة، سواءً ظهرت لنا أو لم تظهر. فالإنسان مسؤول عن عمله، ليس مسؤولًا عن أعمال الله عز وجل، فاعتن بما أنت مسؤول عنه يوم القيامة، وهو عملك، فعلى العبد التسليم لله. أي قال: لم فعل الله كذا؟ لم قدّر الله كذا وكذا؟ فمن قال هذا، فقد رد حكم الكتاب؛ لأن الله يقول: فمن رد حكم الكتاب والسنة، واعترض على ذلك، وذهب إلى العقل والتفكير صار من الكافرين (25) أي يحتاجه في أمور القضاء والقدر، فأنت تؤمن بالقدر ومراتبه الأربع؛ تؤمن بتفاصيلها التي جاءت في الكتاب والسنة، ولا تدخل في المناقشات والاعتراضات، بل تعمل العمل الصالح والأسباب المناسبة. الراسخون، يعني : الثابتين في العلم، الذين عندهم علم راسخ، وليس عندهم شكوك ولا جهل، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويعملون الأعمال الصالحة، ويتركون الأعمال السيئة، ولا يتدخلون مع الله في سر من أسراره، ولا يناقشونه ويعترضون عليه، هذا شأن الراسخين في العلم، وأما الجهّال فيدخلون في ضلالات وأمور ابتدعوها. العلم علمان: علم استأثر به الله، فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وهو علم الغيب. وعلم في الخلق موجود، علّمهم الله إياه، وهو ما لهم فيه مصلحة وذلك بما أنزل الله من الكتاب، وما أرسل به الرسول إنكار العلم الشرعي وما فيه من الأمر والنهي والإخبار عن الماضي والمستقبل، إنكاره كفر. وادعاء علم الغيب كفر لا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وهو علم الكتاب والسنة، وترك علم الغيب لله هذا تابع لما سبق من الكلام عن القضاء والقدر، وقد سبق أن من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بما كتب في اللوح المحفوظ، وأن الله لما علم كل شيء كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وذلك أن الله خلق الخلق، وأول ما خلق القلم، ولا يعلم كيفية اللوح والقلم إلا الله، وهما مخلوقان من مخلوقات الله عز وجل، نؤمن بذلك، ولذلك قال المؤلف: (نؤمن باللوح والقلم وبما فيه قد رقم)؛ يعني اللوح المحفوظ، والكتابة فيه. وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي: الإيمان بالكتابة في اللوح المحفوظ. الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ لا يقدر أحد على تغييرها، فلو اجتمع الخلق على أن يغيروا شيئًا كتبه الله لما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يوجدوا شيئًا لم يكتبه الله في اللوح المحفوظ لم يوجدوه، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: فلا تغيير ولا تبديل لما كتبه الله جلا وعلا في اللوح المحفوظ. هذا معنى الإيمان بالقضاء والقدر، أن تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. فإذا أصابتك مصيبة مما تكره، فإنك تعلم أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، ولابد أن يقع، فتتسلى بذلك عن الجزع والسخط، وتؤمن بالله عز وجل. وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لو حرصت على طلب شيء وبذلت كل وسعك وجهدك فلن تحصل عليه، فإذا فعلت السبب وبذلت كل شيء ولم تحصل عليه، فإنك تسلم وتؤمن بالقضاء والقدر، ولا تنـزعج ويكون عندك هواجس وهموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وفي القرآن الكريم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول ردًا على الكفار لما قالوا في شأن الذين قتلوا في يوم أحد: فما كُتب على الإنسان لابد من نفاذه فيه، ولو تحرز وتحصن وعمل من الاحتياطات ما عمل، لم يمنعه ذلك من قضاء الله وقدره، قال تعالى: هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: على العبد أن يؤمن ويعتقد أن الله علم ما كان وما لم يكن بعلمه الأزلي، الذي هو موصوف به أبدًا وأزلًا، علم الأشياء كلها بعلمه المحيط قبل وقوعها، فلابد من اعتقاد ذلك. عَلِمَهُ سبحانه وتعالى وقدّره فالأمور ليست فوضى أو ليست لها ضوابط، كلها مرتبة ومنضبطة بقضاء الله وقدره وكتابته، والله منـزه عن الفوضى والعبث. لا أحد يتصرف، فيغير ما قضاه الله وقدّره، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه إذا اعتقد المسلم ذلك أراحه من كثير من الشكوك والأوهام، ولكن ليس معنى ذلك أنه يتكل على القضاء والقدر والكتاب، ويترك العمل(29) هذه العقيدة، عقيدة القضاء والقدر، من عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالذي لا يكون مؤمنًا بالقضاء والقدر لا يكون مؤمنًا بالله جل وعلا، بل كان متنقصًا لله عز وجل، فالإيمان به من العقيدة وليس من الأشياء الثانوية أو الفرعية، فالإيمان بالقضاء والقدر من صميم العقيدة، وهو ركن من أركان الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: الإيمان بالقضاء والقدر يدخل في توحيد الربوبية؛ لأنه من أفعال الله جل وعلا، فمن جحد القضاء والقدر لم يكن مؤمنًا بتوحيد الربوبية. الذي يدخل في أمور القضاء ويشكك فيه خصيم الله، ولا يصح الإيمان إلا بالإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع، حسب ما جاء في الكتاب والسنة، ولا تتدخل في السؤالات والإشكالات والشكوك والأوهام، فإن هذا معناه مخاصمة الله عز وجل، فالذين تدخلوا في القضاء والقدر لم يتوصلوا إلى شيء، بل وقعوا في حيرة واضطراب وإفساد للعقيدة. فأمور القضاء والقدر وشؤون الله عز وجل لا يدركها النظر والتفكير والعقل، فلا تكلف عقلك شيئًا لا يستطيعه، فالعقل محدود، لا يمكنه أن يدرك كل شيء، فلا تدخله في متاهات وأمور لا يطيقها. لأن القضاء والقدر سر الله جل وعلا في خلقه، فلا تبحث عنه، ولا تُكلف بذلك، إنما كُلفت بالعمل والطاعة والامتثال. أي يكون كل كلامه وكل بحثه إفكًا، يعني : كذبًا وإثمًا –والعياذ بالله- لأنه فعل ما لم يؤمر به، وتدخل فيما ليس من شأنه. الله سبحانه وتعالى خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الكرسي، وخلق العرش، كلها مخلوقات لله عز وجل، السماوات فوق الأرض، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، فهو أعلى المخلوقات، وذلك كما جاء في الحديث: هذه مخلوقات عظيمة وواسعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. فالعرش أعلى المخلوقات، والله سبحانه عالٍ فوق عرشه فوق مخلوقاته. والكرسي تحت العرش، وجاء في الأثر أنه موضع القدمين، فالكرسي مخلوق، وليس المقصود به العلم، كما نسب ذلك لابن عباس رضي الله عنه، أنه قال في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي : علمه، أي: وسع علمه السماوات والأرض. المعنى صحيح، ولكن ليس هذا المقصود من الآية، فالكرسي مخلوق، والعلم صفة من صفات الله عز وجل ليست من مخلوقاته، فيجب الإيمان بالعرش وبالكرسي، هذا حق على حقيقته، وليس العرش كما يقوله الأشاعرة –ومن نحا نحوهم- إن العرش هو الملك، فيقولون في قوله تعالى : فعرشه مخلوق وله حملة، وهم طائفة من الملائكة: وهل يقال: إذا قيل إن العرش هو الملك. إن المُلك تحمله الملائكة؟ لا تتصور أن معنى قوله تعالى: جميع المخلوقات محتاجة إلى الله ولا يلزم من كون الشيء فوق الشيء أن يكون الأعلى محتاجًا إلى ما تحته، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض. محيط بكل شيء فالله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علمًا، قال الله عز وجل: من عقيدة المسلمين أن الرسل أفضل الخلق وأن الرسل يتفاضلون فهم يعتقدون أن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، كما قال الله تعالى: هذا من أركان الإيمان، التي أولها: الإيمان بالله، وثانيًا: الإيمان بالملائكة، وهم عالم من عالم الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، خلقهم الله تعالى من النور؛ لعبادته وتنفيذ أوامره في مخلوقاته، أوكل إليهم أعمالًا يقومون بها وينفذونها في مخلوقاته، منهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، ومنهم الموكل بقبض الأرواح، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم الموكل بحفظ أعمال بني آدم، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأجنّة في بطون الحوامل، كما في حديث ابن مسعود فهم موكلون بأعمال يقومون بها كما أمر الله تعالى بها: فهم يعبدون الله عبادة متواصلة ومع ذلك يقومون بما أوكل إليهم من تنفيذ الأوامر في المخلوقات ولهم مهام عظيمة، وخلقتهم لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى (34) وقوله: (والنبيين) النبيين جمع نبي وهو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ويجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين ومن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع من أصول الإيمان وأركانه: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على الرسل لهداية الخلق؛ فالله تعالى أنزل الكتب على الرسل من كلامه ووحيه وتشريعه، أنزلها على الرسل ليبلغوها إلى أممهم، فيها الأوامر وفيها النواهي، وفيها شرع الله جل وعلا. منها ما سماه الله في القرآن ومنها ما لم يسمه، ونحن نؤمن بجميع الكتب، ما سماه لنا وما لم يسمه، كالتوراة التي أنزلها على موسى، والإنجيل الذي أنزله على عيسى، والقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، والزبور الذي أنزله على داود وكذلك الكتاب الواحد يجب الإيمان به كله والعمل به كله، فلا نأخذ ما يوافق شهواتنا وندع ما يخالفها . فمن جحد كتابًا من كتب الله، أو بعضًا من الكتاب، أو كلمة من الكتاب، أو حرفًا من الكتاب، فهو كافر بالله عز وجل. هذا من العقيدة، أنه من نطق بالشهادتين واستقام عليهما فإنه مسلم، ولو صدر منه بعض المعاصي، ولو كانت من الكبائر، وما دامت المعاصي دون الشرك، ولكن يكون مسلمًا ناقص الإسلام وناقص الإيمان وفاسقًا، ولكنه لا يُحكم بكفره إن كانت معاصيه دون الشرك، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، لا يُكفِّرون بالمعاصي التي هي دون الشرك، ولكن ينقص بها الإيمان، وصاحبها يفسق بها الفسق الأصغر الذي لا يخرج من الملة. خلافًا للخوارج الذين يُكفّرون بالكبائر ويخرجون بها من الملة، ويخلدون صاحبها في النار. وخلافًا للمعتزلة الذين يُخرِجون صاحب الكبيرة من الإسلام، ولكن لا يدخلونه في الكفر، ويقولون: هو في منـزلة بين المنـزلتين، ولكن لو ماتوا على الكبيرة فالمعتزلة مثل الخوارج في الحكم عليهم، وخلاف عقيدة المرجئة الذين يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، من صدق بالله عز وجل فإنه يكون مؤمنًا، وإن فعل ما فعل، ولو ترك جميع أركان الإسلام عندهم لا يكون كافرًا، المهم التصديق والاعتقاد، أما الأعمال فلا تزيد في الإيمان ولا تنقصه وليست منه، فهو مؤمن تام الإيمان ما دام مصدقًا. هذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال. فهم مع الخوارج على طرفي نقيض؛ قوم تشددوا، وهم الخوارج، وقوم ذابوا وماعوا وقالوا: إن هذه المعاصي لا تضر، وهم المرجئة، وأما أهل السنة والجماعة فتوسطوا، ومذهبهم مأخوذ من الكتاب والسنة، وهو العدل، وفيه الجمع بين الأدلة. أما الخوارج والمعتزلة فأخذوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، وأما المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، لكن أهل السنة والجماعة أخذوا بنصوص الوعد وبنصوص الوعيد، وجمعوا بينها، وهذا الحق أما لو جحدوا شيئاً مما جاء به النبي صلى لله عليه وسلم ولم يعترفوا، صاروا كفاراً، ولو آمنوا ببعض ما جاء به، فإن جحدوا بعضه فهم كافرون بجميع ما جاء به، فالواجب الإيمان به كله، سواء وافق أهواءنا أو خالفها؛ لأنه حق. أما من كذب ببعض الأحاديث الصحيحة فهو كافر، فلو رد حديثاً في البخاري، والحديث صحيح، وقال: أنا لا أومن بهذا الحديث ولا أصدقه؛ لأنه يخالف العلم الحديث، فسبحان الله! كلام النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم، وكلام البشر لا يتهم؟ أيضاً العلم الحديث قد لا يخالف الأحاديث الصحيحة، والحمد لله، فمثلاً ورد في حديث الذباب الذي ينكره هؤلاء أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، والطب يقر بهذا أن السم يعالج بضده، وبما يناقضه، والذباب فيه النقيضان، فإنه إذا وقع في الماء فإنه يرفع الجناح الذي فيه الدواء، ويغمس الجناح الذي فيه السم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه بجناحه الذي فيه الدواء (35) وقوله: (معترفين) (مصدقين) لا يكفي الاعتراف والتصديق إلا على مذهب المرجئة، بل لابد مع ذلك من العمل بما جاء به، ولابد من الإخلاص في ذلك. لا نخوض في الله، بل نؤمن به وبصفاته وأسمائه، ولا نؤولها ونصرفها عن ظاهرها، ونأتي بمعانٍ ما أرادها الله ولا أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، اتباعاً لأهوائنا وعقولنا القاصرة، وهذا كفر بالله عز وجل. وكذلك في دين الله لا نماري –أي نجادل- ونقول: هذا نؤمن به وهذا نتوقف في الإيمان به، فما دام ثبت في الكتاب والسنة فليس فيه مجال للخوض، بل نؤمن به ونُسَلّم، وإن كان في عقولنا ما لا يدرك هذا الشيء، فعقولنا قاصرة، ولو كانت كاملة لما احتاجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما احتاجت البشرية إلى الرسل، فدل على أن العقول قاصرة، وأنه لابد من إرسال الرسل؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل. قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل عدم القول بأنه ليس من عند الله، كما يقوله الكفار، ويقولون: هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك الجدال في تفسير معاني القرآن، فلا نفسر القرآن من عند أنفسنا، فالقرآن لا يفسر إلا بما جاء في كتاب الله أو ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما قاله الصحابة أو ما قاله التابعون، أو ما اقتضته اللغة العربية التي نزل بها. فلا نقول فيه بعقولنا القاصرة، إنما يفسره الله سبحانه الذي نزله، أو النبي عليه الصلاة والسلام الذي وُكل إليه بيانه، أو الصحابة الذين تتلمذوا على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أو التابعون الذين رووا عن تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، أو اللغة التي نزل بها؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين. أما تفسيره بما يقوله الطبيب الفلاني أو المفكر الفلاني أو الفلكي الفلاني، فالنظريات تختلف، فاليوم نظرية وغداً نظرية تبطلها؛ لأنها من عمل البشر، فلا يُفسَّر كلام الله بهذه الأشياء التي تتبدل وتتغير كما يفعله الجهال اليوم ويقولون: هذا من الإعجاز العلمي. قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) نشهد أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة، وسمعه جبريل من الله، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد عليه الصلاة والسلام إلى أمته، وبلغته أمته كل جيل إلى الجيل الذي بعده، نحن نكتبه ونقرؤه ونحفظه، وهو بذلك كلام الله ما هو بكلامنا، ولا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام جبريل عليه السلام. الروح الأمين هو جبريل، وسمي بهذا لأنه مؤتمن لا يغير ولا يبدل؛ مؤتمن على ما حمله الله، لا يتهم بالخيانة كما تقوله اليهود يقولون: جبريل عدونا. أو كما يقوله غلاة الشيعة: إن الرسالة لعلي ولكن جبريل خان وبلغها إلى محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تكذيب لله؛ لأن الله سماه أميناً. فأنزل الله في اليهود: من عادى جبريل، أو ملكاً من الملائكة، فإن الله عدوه وكذا من عادى رسولاً من الرسل، فهو كافر، ومن عادى ولياً من أولياء الله فإنه مبارز الله بالمحاربة، كما صح في الحديث (37) هو كلام الله، تكلم به سبحانه حقيقة، وسمعه جبريل من الله حقيقة، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان وهو كلام الله، سبحانه وتعالى كما نزل، فالله حفظه من الزيادة والنقص: لا نقول: القرآن مخلوق، كما تقول الجهمية، فهذا كفر وجحود لكلام الله، ووصف لله بالنقص وأنه لا يتكلم، والذي لا يتكلم يكون ناقصاً ولا يكون إلهاً. ولهذا لما قال قوم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، يعنون العجل أو التمثال، قال الله جل وعلا: وفي الآية الأخرى: (ولا نخالف جماعة المسلمين) فجماعة المسلمين يؤمنون بأنه منـزل حقيقة غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذه عقيدة المسلمين في القرآن. وكذلك لا نخالف جماعة المسلمين في كل ما اجتمعوا عليه من أمور الدين. قال تعالى: (من الله بدأ) وليس كما يقول بعض الضلال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، بل سمعه من الله مباشرة، (وإليه يعود) أي: في آخر الزمان، يرفع القرآن إلى الله عز وجل، وهذا من علامات الساعة، فيُنـزع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى في الأرض. (ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) هذا كما سبق أن الذنب إذا لم يكن كفراً أو شركاً مخرجاً من الملة، فإننا لا نُكَفّر به المسلم، بل نعتقد أنه مؤمن ناقص الإيمان، معرض للوعيد وتحت المشيئة. هذه عقيدة المسلم، ما لم يستحله، فإذا استحل ما حرم الله فإنه يكفر، كما لو استحل الربا أو الخمر أو الميتة أولحم الخنـزير أو الزنا، إذا استحل ما حرم الله كفر بالله، وكذلك العكس: لو حرم ما أحل الله كفر: أما لو فعل الذنب وهو لم يستحله بل يعترف أنه حرام فهذا لا يكفر ولو كان الذنب كبيرة دون الشرك والكفر لكنه يكون مؤمناً ناقص الإيمان أو فاسقاً بكبيرته مؤمن بإيمانه. وقوله: (لا نكفر بذنب) ليس على إطلاقه، فتارك الصلاة متعمداً يكفر (39) كما تقوله المرجئة، يقولون: ما دام مصدقاً بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، أما الأعمال فأمرها هيّن، فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يعمل شيئاً من أعمال الطاعة، يقولون: هو مؤمن بمجرد ما في قلبه! وهذا من أعظم الضلال. فالرد عليهم أن الذنوب تضر على كل حال، منها ما يزيل الإيمان بالكلية، ومنها ما لا يزيله بالكلية بل ينقصه وصاحبها معرض للوعيد المرتب عليها. هذا بحث للشهادة لمعين أنه من أهل الجنة، أو أنه من أهل النار، نحن لا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا بدليل، إلا من شهد له المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة، شهدنا له بذلك، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار شهدنا له بذلك، هذا بالنسبة إلى المعينين، أما بالنسبة إلى العموم فنعتقد أن الكافرين في النار، وأن المؤمنين في الجنة. أما على وجه الخصوص فلا نحكم لأحد إلا بالدليل، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. هذه عقيدة المسلمين. نستغفر للمسيء؛ لأنه أخونا، وندعو له بالتوبة والتوفيق؛ وإن كان مذنباً، وهذا حق الإيمان علينا ولا نُقنّطُ المذنب من رحمة الله كما تقوله الخوارج والمعتزلة، لا نقنطه من رحمة الله، بل هو معرض للوعيد وتحت المشيئة، وإن تاب تاب الله عليه عز وجل: والوعيدية الذين هم الخوارج ومن سار في ركابهم، هم الذين يُقنّطون الناس من رحمة الله، ويخرجونهم من الملة بذنوبهم، وإن كانت دون الشرك. من أصول العقيدة الإسلامية: الخوف والرجاء، وهما من أعظم أصول العقيدة، والخوف والرجاء لابد من الجمع بينهما، لا يكفي الاقتصار على واحد منهما فقط، كما قال تعالى في وصف أنبيائه: رغباً: هذا هو الرجاء، ورهباً: هذا هو الخوف، وقال سبحانه وتعالى: وقال جل وعلا: فمن اقتصر على المحبة فقط فهو صوفي، فالصوفية يعبدون الله عز وجل بالمحبة، ولا يخافون ولا يرجون، يقول قائلهم؛ أنا لا أعبده طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده للمحبة فقط، وهذا ضلال والعياذ بالله. ومن عبد الله بالخوف فقط فهو من الخوارج؛ لأن الخوارج أخذوا جانب الخوف والوعيد فقط، فكفروا بالمعاصي. ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو من المرجئة، الذين أخذوا جانب الرجاء فقط، وتركوا جانب الخوف. أما أهل التوحيد فيعبدون الله بجميع الثلاث: بالحب والخوف والرجاء، ثم إن الخوف لا يكون معه قنوط، فإن كان معه قنوط من رحمة الله صار كفراً وكذلك الرجاء لا يكون رجاء مع الأمن من مكر الله وعدم الخوف، وهذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال لذا يقول بعض السلف: يجب على العبد أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يعني: يسوي بينهما، كجناحي الطائر، وجناحا الطائر معتدلان، لو اختل واحد منهما سقط، فكذلك العبد بين الخوف والرجاء كجناحي الطائر.
(الحق بينهما) أي: الخوف والرجاء (لأهل القبلة) أي : المسلمين، سُمُّوا أهل القبلة؛ لأنهم يصلون إلى الكعبة، أما من لا يصلي إلى الكعبة فليس من المسلمين لأن الله أمر بالتوجه إلى الكعبة، فالواجب اتباع أمره سبحانه حينما نسخ الاستقبال لبيت المقدس، فالمؤمن يدور مع الأوامر؛ لأنه عبد لله هذا الكلام فيه مؤاخذة؛ لأن قصر الكفر على الجحود مذهب المرجئة، ونواقض الإسلام كثيرة منها: الجحود، ومنها: الشرك بالله عز وجل، ومنها: الاستهزاء بالدين أو بشيء منه ولو لم يجحد، وهي نواقض كثيرة ذكرها العلماء والفقهاء في أبواب الردة، ومنها: تحليل الحرام وتحريم الحلال. وذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب منها عشرة، وهي أهمها، وإلا فالنواقض كثيرة. فقصرُ نواقض الإسلام على الجحود فقط غلط. وبعض الكتّاب المتعالمين اليوم يحاولون إظهار هذا المذهب من أجل أن يصير الناس في سعة من الدين، ما دام أنه لم يجحد فهو عندهم مسلم، إذا سجد للصنم وقال: أنا ما جحدت، وأنا معترف بالتوحيد، إنما هو ذنب من الذنوب. أو ذبح لغير الله أو سب الله أو سب الرسول أو سب الدين، يقولون: هذا مسلم لأنه؛ لم يجحد، وهذا غلط كبير، وهذا يضيع الدين تماماً، فلا يبقى دين فالواجب الحذر من هذا الخطر العظيم. هذا تعريف المرجئة، قصروا الإيمان على الإقرار باللسان والتصديق بالجنان. فالقول الحق: أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، فالأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وليست بشيء زائد عن الإيمان، فمن اقتصر على القول باللسان والتصديق بالقلب دون العمل، فليس من أهل الإيمان الصحيح. فالإيمان –كما قال العلماء- : قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. قال تعالى : وكما في الحديث الصحيح: فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا تعريفه الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة. فليس كما تقوله الحنفية: قول باللسان واعتقاد بالجنان فقط. وليس كما تقوله الكرامية: قول باللسان فقط. وليس كما تقوله الأشاعرة: اعتقاد القلب فقط. وليس كما تقوله الجهمية: هو المعرفة بالقلب فقط. فالمرجئة أربع طوائف، أبعدها الجهمية، وعلى قولهم يكون فرعون مؤمناً؛ لأنه عارف، وإبليس يكون مؤمناً؛ لأنه عارف بقلبه. وعلى قول الأشاعرة: إنه التصديق بالقلب، يكون أبو لهب وأبو طالب وأبو جهل وسائر المشركين يكونون مؤمنين؛ لأنهم موقنون بقلوبهم ومصدقون، يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن منعهم الكبر والحسد من اتباعه صلى الله عليه وسلم . واليهود يعترفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن الحسد والكبر: وأبو طالب يقول: لولا الملامة أو حذار مسبةٍ ** لرأيتني سمحاً بذاك مبينا
هذا كلام طيب، كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، بخلاف من يقولون: إن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى متواتر وآحاد، فلا يأخذون إلا بالمتواتر، ويقولون: أحاديث الآحاد تفيد العلم، ولا تفيد اليقين، ولا يستدل بها في العقيدة، وهذا باطل، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم –متواتراً أو آحاداً، فإنه يفيد العلم، وتبنى عليه العقيدة؛ لأنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عمل به في كل شيء، بشرط أن يكون قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك طوائف الآن يشككون في السنة؛ منهم من يقول: لا يجوز العمل بالسنة مطلقاً، ويكفي العمل بالقرآن فقط (43) ، وهناك من يقول: يؤخذ من السنة المتواتر فقط، وكلا الطائفتين ضال. فالواجب على المسلم أن يعتقد أن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، والرسول صلى الله عليه وسلم عمل بخبر الواحد في وقائع كثيرة؛ رؤية الهلال؛ جاءه ابن عمر وأخبره بأنه رأى الهلال فأمر الناس بالصيام، وجاءه أعرابي وأخبره أنه رأى الهلال فقال له: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟" قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصيام (44) كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، وما كان يرسل جماعات، والمرسل إليهم يعملون بما بلغهم المندوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم . هذا غلط؛ لأن الإيمان ليس واحداً، وليس أهله سواء، بل الإيمان يتفاضل، ويزيد وينقص، إلا عند المرجئة. والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواءً، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين؛ لأن الفاسق من المسلمين إيمانه ضعيف جداً، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان الأمة كلها (45) كذلك من ناحية العمل، الناس يتفاضلون في العمل، منهم كما قال الله عز وجل: هذا لا يكفي لأن معناه إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، وأنه إذا صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، والناس لا يتفاضلون في ذلك. وهذا خطأ كبير؛ لأن التفاضل يحصل بما ذكره وبالأعمال الصالحة. هذا حق، فالمؤمنون كلهم أولياء الله، يعني: أحبابه، فالله يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب المحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، كما أنه يبغض الكافرين ويبغض الفاسقين، فالله يحب ويبغض على الأعمال. فكل مؤمن يكون ولياً لله، وتتفاضل الولاية، بعضهم أفضل من بعض، قال جل وعلا: فكل من فيه إيمان وتقوى فهو ولي الله، ولكن الولاية تتفاضل بحسب الأعمال، فمنهم من ولايته كاملة، ومنهم من هو ولي من وجه، وهو المؤمن الفاسق، ولي لله بطاعته، عدو لله بمعصيته ومخالفته. ومنهم من هو عدو خالص كالكافر والمشرك. هذا هو الحق، أما من يرى أنه ليس لله ولي إلا من بُنيَ على قبره مشهد أو ضريح، والذي ليس عليه ضريح هذا فليس بولي؟ كما عند القبوريين! فهذا باطل. تعريف الإيمان هو كما سبق: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان (46) وله خصال كثيرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : وتقدم الكلام عن الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، تقدم كل هذا، ولكنه متفرق في أول هذه العقيدة. يجب الإيمان بهذا كله، فإن جحد شيئاً من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن؛ لأنه نقص ركناً من أركان الإيمان.
هذا سبق، أنه يجب الإيمان بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم في القرآن ولم يسمَّ؛ فنؤمن بجميع الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فهو كافر بالجميع؛ لو جحد نبياً واحداً فإنه يكون كافراً بجميع الأنبياء فاليهود كفار؛ لأنهم كفروا بنبيين كريمين، كفروا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى كفار؛ لأنهم جحدوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين يقولون اليوم: اليهود والنصارى مسلمون ومؤمنون، وأنهم أهل أديان، ويجب التقارب بين الأديان والحوار بين الأديان، هذا خلط وضلال والعياذ بالله، خلط بين الحق والباطل، والإيمان والكفر لأنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ليس هناك دين صحيح إلا الإسلام فالإسلام نسخ كل ما قبله، وأمر الإنس والجن واليهود والنصارى والأميين وجميع العرب والعجم، أمروا باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان إلا باتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. الكبائر هي الذنوب التي دون الشرك وفوق الصغائر، وضابط الكبيرة هو: كل ذنب رُتب عليه حد، أو ختم بغضب أو لعنة أو نار، أو تبرى الرسول صلى الله عليه وسلم من فاعله، فإن هذا كبيرة، كقوله: كل هذه الاعتبارات تدل على أن الذنب كبيرة، ولكنها دون الشرك، فصاحبها لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمناً ناقص الإيمان، أو يسمى فاسقاً، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، لا يكفرون بالكبائر التي دون الشرك، ولكن لا يمنحون صاحبها اسم الإيمان المطلق، ولكن يمنحونه إيماناً مقيداً؛ فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. فلا يقال: هو مؤمن كامل الإيمان، كما تقوله المرجئة، ولا يقال: هو خارج من الإسلام، كما تقوله الخوارج والمعتزلة. إذاً: فالناس في صاحب الكبيرة التي هي دون الشرك ثلاث طوائف : الخوارج والمعتزلة: أخرجوه من الإسلام، لكن الخوارج أدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه، وقالوا: هو في منـزلة بين المنـزلتين، ولكنهم أخرجوه من الإسلام. المرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، طالما أنه يعتقد في قلبه الإيمان عند جمهورهم وينطق بلسانه عند بعضهم، فإنه مؤمن كامل الإيمان، ولا تنقص هذه المعاصي من إيمانه، وإن كانت كبائر، وهذا ضلال أيضاً. أما القول الحق فهو مذهب أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة دون الشرك مؤمن، وليس بكافر، لكنه ناقص الإيمان. فهذا يجب معرفته، ويجب أن ترسخه في عقلك، فأهل الشر زاد شرهم في هذا الوقت، وصاروا يظهرون مذهب الإرجاء ليروجوه على الناس، وليستروا على أنفسهم ما هم فيه من الضلال. فهذا معرفته من أوجب الواجبات على طالب العلم اليوم. نعم، هذا هو المذهب الحق: أن أصحاب الكبائر التي دون الشرك ليسوا كفاراً، وأنهم إذا لقوا الله ولم يتوبوا من هذه الكبائر فإنهم تحت المشيئة، إن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بتوحيدهم وإيمانهم، لا يخلدون في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: وإن شاء الله أمضى فيهم الوعيد، ولكنهم لا يخلدون في النار، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو المذهب الحق، بخلاف الخوارج الذين يقولون: إنهم في النار على أي حال، وإنهم خالدون فيها، فمن دخل النار عندهم لا يخرج منها. وخلاف المرجئة القائلين: إنهم لا يمرون على النار أبداً، فهذا غلط، بل لا نضمن لهم النجاة، فهم تحت المشيئة. إن شاء عفا عنهم بفضله، وإن شاء عذبهم بعدله، وما ظلمهم الله سبحانه وتعالى، بل عذبهم بأعمالهم التي أوجبت لهم ذلك، فالله لا يعذب من لم يعصه، ولا يساوي بين العاصي وبين المؤمن المستقيم، هذا استنكار من الله عز وجل، كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عصاة الموحدين يخرجون من النار (51) بعد إخراجهم من النار، ورد أنهم يخرجون من النار كالفحم محترقين، ثم يلقون في نهر يسمى: نهر الحياة، فتنبت أجسامهم ولحومهم، ثم بعد ذلك إذا هُذبوا ونُقوا أُذن لهم في دخول الجنة، فيدخلون في الجنة (52)
|